الخميس، 18 أبريل 2024

 

طرف من سيرة جزيرة ديامو

د. هويدا صالح

جدار من الحجارة  أقيم  في عرض البحر الواسع، لا نعرف متى أقيم تحديدا، كما لا نعرف كيف له كل هذه السطوة التي تجعل منه تميمة سحرية تهب من تريد تواجدا وحياة، وتنزع ممن لا ترغب في وجوده كل وجوه الحياة، إنه جدار جزيرة ديامو الذي أقامه محسن يونس في براعة ودهشة ليقدم من خلاله موجاته القصصية في روايته "سيرة جزيرة تدعى ديامو" التي صدرت عن دار فكرة للنشر والتوزيع بالقاهرة. ورغم أن الكاتب آثر أن يصنف روايته بتصنيف مغاير"موجات قصصية" إلا أنها أقرب إلى الشكل الروائي منها إلى شكل الموجات القصصية، فهذا الفضاء السردي يؤرخ لمكان واحد هو جزيرة خيالية غير محددة المكان، يسكنها مجموعة من الناس، ويقوم الكاتب بسرد حيواتهم، سعاداتهم وتعاساتهم، علاقتهم بالجزيرة، وعلاقتهم بما يدور خارجها، وتحتل "أم ديامو" بؤرة السرد  فيه، والضمير المهيمن على السرد هو ضمير الـ "نحن"،وكأن الكاتب يتحدث بالضمير الجمعي لسكان المدينة، وكأنه يتقصد ألا يعطي للذاتية والفردية وجودا مستقلا عن الأنا الجمعية. وحين تعمد الكاتب أن يجعل من "أم ديامو" عمود السرد الدائري الذي تدور حوله الأحداث إنما كان يعي فكرة الطوطمية التي كانت تجعل من الأم محرك العالم والأحداث، وكأنه يعي فكرة المجتمع المترياركي (الأمومي) قبل الانقلاب البطرياركي (الأبوي) الذي صار فيه الرجل هو محور الحياة وعمودها. و تبدأ الموجات في الاندماج والتلاحم حتى نصل إلى لحظة الذروة وهي موت"أم ديامو"هو موت عبقري فتازي، فحين أرادوا دفنها ، ألقوا بها في البحر، ووضعوا على صدرها الحجر، لكنها لا تغرق، ولا تغيب عن بؤرة الأحداث، بل تعود لتطفو مرة أخرى.إذن هذه لكاهنة الحكيمة  تفيض بحكمة الإله. هي حاملة التقاليد فباستمرارها تستمر ديامو

وبوجودها لا نتيقن أن الجزيرة موجودة فعلا، حتى عندما تموت وتلقى في البحر تبقى حية، وكأنها هي سر الحياة لهذه الجزيرة

إنها حكايات منفصلة متصلة، لكن لكل شخصية في النص جزيرتها الخاصة داخل الجزيرة الإطار"ديامو" فللبهلوان جزيرته، وللعجوز جزيرته، وللعروس التي تغادر بيوت أزواجها الخمسة جزيرتها، لكن الجميع يعيشون تفاصيل الحياة في الجزيرة الإطار.

يقوم الكاتب بأسطرة الواقع، فالحجر الأسطوري الذي يحمي الجزيرة، ويجعل أهلها يذهبون منها إلى جزر مجاورة، لكنهم يعودون إليها، لكن ليس كل من يخرج منها ويغادر الحجر الواقف شاهدا عليها يعرف كيف يعود، بل ربما يتوه في العالم الواسع ولا يستطيع العودة، وربما يعود مشتاقا ملهوفا على جزيرته الحبيبة ولا فكر ثانية في مغادرتها:" كانت أصواتنا ترن في البئر رجع الصدى، أنزلنا حبلا، ظل يمتد داخل الفتحة إلى أن انتهت الحبال من ديامو، ولم يكلع الشملول، ديامو إليك واحدا من أهلك ذهب إلى حيث الأجداد والآباء، الذين أنشأوا هذا الجدار الحجري على الشط الشرقي، علامة يا ترى؟! أم منعة؟! بقدر ما نعي قائما بيننا ، يغيب ويحضر في الروح وقت يشاء ، يدامو لا تكون إلا بإياه .. النمرود البحر يرسل أمواجه اللعوب مكشوفة النية، وهو الجدار لا يرضخ لمحوها، ومحتها، صامد.. ربما تخلعت بعض أحجاره من ذات نفسها، وتتأثرت على الرمال، ننظرها من بعيد كأنها رجال تقعي.. أما النمرود البحر، فلم يأخذها، لأنها ليست منه، ولن تعود إليه". عالم  الجزيرة مليء بالتفصيلات الصغيرة تصنع عالما من الدهشة والطزاجة. وكل شئ في ديامو مختلف عن الواقع ومفارق له، وكأننا أمام جزيرة من ألف ليلة وليلة:" استقر رأيه على أن دياموجزيرة عمياء، ليس فيها من الألوان إلا لونين، وهو في هذا كاذب، فقوس قذح يسكن ديامو، وبلونها بألف لون. من خلف جدارها الحجري تطلع إلى الأفق والماء، نزل بعدها إلى البحر، ظل يجوس في مياهه إلى أن قرر السباحة، فسبح يعرف أن في آخر هذا الأفق جزيرة أخرى.صاح/ وهو يتوقف عن السباحة ناظرا إلى ديامو :"ديامو .. أعطيك الآن ظهري، ثم استدار مواصلا السباحة". ـ نحن إذن أمام ما يسمى أسطورة المكان، حيث يتفجر عالم أسطوري للمكان بكل خصوصياته .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


هوامش

ـ محسن يونس روائي مصري له عدة إصدارات منها : بيت الخلفة، وحكاية عن الألفة ، وسيرة جزيرة تدعى ديامو، والأمثال في الكلام تضئ.

المجتمع المتريركي (الأمومي) كان يسود الأرض، واستمر كذلك حتى استطاع الرجل تحويل الحصان من حيوان للجر/ السلم إلى حيوان للحرب/ العنف، وسخّر قوته الجسدية للتغلب على سلم الأنثى وخلقها، بدل أن يستخدمها في الزراعة والرعي والصيد. الأمر الذي حوّل التجمعات النسائية المسالمة إلى مدن ذكورية مسوّرة، تخترع الحروب والغزوات كوسيلة للسيطرة والفاعلية.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق